الحب من منظور اناركي



الحكومات والبيروقراطيّات حول العالم، وبإستعمال مختلف قنوات التواصل، من بشر وحجر وشجر، تقوم بما يسميه ليو شتراوس بتربية المواشي البشرية، وهي حرفة ضاربة في القدم، سواء إمتزجت بالعبودية أو بالإبتكارية، تبقى بهدف واحد، تشجيع القولبة وتجريد الأفراد من كل حسّ بالتميّز، عن قصد أو عن دون قصد، الحكومات والبيروقراطيّات تضرب دوما عمق الفردانية والتميّز ومنطقيا، فإنك عندما تفقد خصائصك الفردية المميزة تصبح مجرّد بهيمة سائرة تنتظر من يعجن خبزها ويبني سقفها ويخرأ في دماغها. الحبّ أحد أعقد الظواهر إن لم يكن أعقدها، وحقيقة فمشكلتنا ليست الحب في حد ذاته، الحب موجود شئنا أم كرهنا، وحبك لأمك أكبر دليل على وجوده، ولم تكن لتولد لولا أن نكح أبوك أمك لسبب من أسباب الحب، سواء كان مجرد إعجاب.. أشد من غرام حسب معجم العرب أم غيرهما، الحب واقع ولا علم هناك لتفسيره ومنطقته وتقنينه، الحب هو الحب. وحب المغرمين، أو حب الفتاة للفتى أو الفتى لفتاة هو مشكتنا، خيالنا يؤمن بوجود الحب بشكل عدميّ غريب، لكن واقعنا غريق لبحر معاناتنا، فلا من أحببنا يحبنا ولا أحببنا من يحبنا، معاناة في معاناة، خيال في خيال، هكذا أرادنا شيطان عصرنا: حكوماتنا وبيروقراطياتنا. تستثمر الحكومات بشكل كبير للغاية للركوب فوق مختلف قنوات التواصل، الحكومات ليست بمنظمات واعية، هي أشبه بالوحش الهجين الذي يعيش على إستعباد البشر وأكل لحومهم، فهاهي تستفرد بقنوات التواصل الطبيعية من تلفزيون وراديو وصحافة تارة، وهاهي تسترفد بالمخابرات تارة أخرى للتجسس والتلاعب بمنحى تطور البشرية، هكذا نكحت الحكومات إحاسيسنا وحرمتنا من أحِبّتِنَا. بعد أن إنفجرت صناعة الإنتاج السمعي البصري في هوليوود خلال ثلاثينيات القرن الماضي، سارعت الحكومات بمختلف أطيافها من حكومات ليبيرالية غربية وشيوعية شرقية في الإستثمار بشكل عملاق في هذه الصناعة، لما تمكنّه أدوات فعّالة لتربية المواشي البشرية، وما تلاها من ظواهر كالمهرجانات والتلفيزيون والراديو وغيرها، وبدأو بنكح أرقى أحاسيس البشر، الحب، بدون أدنى رحمة أو شفقة، إنه حبّ السّلطة والسّيطرة. رأت الحكومات في الحبّ أحد المنتوجات التي يمكن بيعها لأي شخص في العالم، بالمجّان، وآثرت إلا أن تضخم حجمه وتجعل شأنه ذو قدر عظيم، بيد أنه مجرد إحساس طبيعي كالأمومة والأخوة وغيرهما من أحاسيس فطرية نحسها تجاه بعضنا، لكن الحكومات رأت في دمج أعمال شكسپير وموهبة مارلين مونرو فرصة تاريخية لتطويق العقل البشري وجعله يتخبط في المزيد من الآلام والأوجاع عوض أن يغترف من بحر الإستكشاف والمعرفة والتبادل الإيجابي. إستثمرت الحكومات بشكل لا يصدق في الأفلام والمهرجانات وصناعة الموسيقى الرخيصة، إستثمرت الحكومات الكثير، إستثمرت الحكومات الكلّ في تضخيم صورة الحب كما فعلت مع الديموقراطية سابقا، لجعل الحب كالثمرة الصّعبة المنال، إستثمرت الحكومات في طبع وهم الحب في عقول الجميع، بل أنها شجعت قطعان الماشية من البشر على نحت صور مثالية للفتى والفتاة، أسمر، شهلاء، أشقر... شجّعت على وضع المزيد من العراقيل أمام العقل البشري الأعلى، شجّعته على الخوض في تلابيب الفراغ، ضخّمت صورة الحب حتى شتّتت أسرا وحرمت فتيانا وفتيات.. بل أجيالا، طمعا في عناق مستحيل مع فتى من خيال.. طمعا في قبلة ناعمة مع فتاة من خيال.. شجّعت الموسيقيين على التنكّر لإبداعات العمالقة الخالدة المادحة لمحيطنا، وطمسها لنشر الخراء العاطفي المؤلف من أشعار فارغة وكلمات بذيئة رخيصة. دفعت الحكومات بالمهرجانات وشجعت على إقامتها، شجّعت الشباب والشبان على تقديس مرحلة لا تغدو أن تكون طبيعية في مسار التكاثر البشري، شجعت الحكومات وسائل الإتصال على نشر أغانٍ وأساطير حول الحب ما هي إلاّ وحي من خيال، لم ولن توجد أبدا، فلا جولييت ذات جمال أخاذ ولا قيسٌ يشبه ليوناردو ديكاپريو، كانو بشرا عاديين لا يتخطون مُعدّل جمال طبيعي.. إختارو بعضهم ليطعمو بعضهم البعض من طاهر الإحساس والإخلاص. روميو كان طويل الوجه قبيح المنظر أشعث الشعر، بينما كان وجه جولييت مليئا بالنتوء ولم يكن شعرها أملس إطلاقا، وكان قيس مُتّسخ الثوب قبيح المنظر، يشبه أبناء عمومته من سُكّان النّجف بينما كانت أقدام ليلى تشبه أقدام الماعز، وهذه حقائق تاريخية معروفة، والدليل على هذا هو أن أعظم قصص الحب التي مُجِّدت على مرّ العصور كانت بين شُبّانٍ وشابّات لم تعرف المنافسة طريقها إليهم قطُّ. الحب كان دوما ولا يزال إختياراً طوعيّا لإطعام نصفك الآخر من شوقك ومَحبَّتِك وعطفك عن سائر الآخرين والأخريات، ومحاولة تعْيِيرِ الحبّ وربطه بالمثاليّة مُجرّد فخّ صنعته الحكومات التي تقتات على الجهد الضائع من التّائهين. بل حتى الروائع الموسيقية والسينيمائية الخالدة لم تتغنى ولم تمجّد الحبّ قطّ، لائحة أفضل الأفلام على مرّ التّاريخ لا تضمّ قصص غرام وشوق، وبيتهوڤن موزارت باخ وشوپان لم يؤلّفو شيئا عن الحب، عظماء المُفكّرين لم يكتبوا عن الحب، كتبو عن الحرية والفلسفة، ولم يعطوا للحب أكثر من قيمته، لأن الحب ضروري يحتاجه الإنسان ليعيش عيشة سعيدة مع زوجه في طمأنينة وإخلاص وراحة، لكنه شيء طبيعي وعادي على كلّ فرد أن يعيشه بشكل مُسْتقلّ بشكل يومي، يُحِبَّ ويّحَبّ، وأي محاولة لتأسيس حبّ غير متكافىء القوى لن يقودك سوى لعدميّة بلهاء. لقد وقعنا في فخّ الحكومات، أو فقعنا في وخّها، وآثرنا إلاّ أن نحبّ من لا نستطيع إقناعهم، وأن نهمل من أحبّونا بصدق، لقد آثرنا إلا أن نعاني ونأكل من القِدْر المسموم المقتدى على نار الحكومات، آثرنا إلاّ أنعذب أنفسنا، وهكذا خُلِق الإنسان: أبلها سهل المنال. أحب من أحبوك، إعشق من عشقوك، تمسك بمن قدّسوك، ولا تثق أبدا بهراء الإشهار والحكومات، فلن يريحك صدرها المنحوت، ولن يسعدك قوامها الممشوق، سارع إلى حبّ من يشبهوك، فلا مثالية فوق كوكب الأخطاء.

حرر بالصين الشعبية، مقاطعة برشيد، دوار عين ظهرك

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فلسفة الأنانية

في قلبي أنثى عدمية

الويب.. بين طموح الأناركية و قوة التكنولوجيا و وهم الحماية